حول الموطن الأصلي للحصان العربي
يناير 9, 2024المنظمات والمبادرات الغربية
فبراير 10, 2024مفهوم الأرسان والمرابط
بقلم: ياسر غانم
وحد الاسلام العرب، وبعث فيهم حب العلم وروح الحضارة، فبدأت بعد الإسلام نهضة تدوينية وثقت تاريخ العرب وآدابهم، وأخرجت لنا نصوصا وأسفارا ذاخرة بالأخبار والأشعار ظلت باقية إلى اليوم. إلا أن الديوان الحي لتاريخ العرب منذ العصر الجاهلي كان دائما الشعر العربي، الذي حفظه العرب واحتفوا به، وتناقلته رواتهم لقرنين على الأقل قبل الإسلام، قبل أن يتم تدوينه بشكل واسع في القرن الثاني الهجري، الثامن الميلادي.
منذ فجر الإسلام اهتم المسلمون الأوائل بالتدوين. بداية بحفظ كتاب الله تعالى، ثم السيرة النبوية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من أول ما وضعوا فيه غاية عنايتهم حفظ اللغة العربية وضبطها والتي هي لغة القرآن الكريم، فازدهرت علوم اللغة ازدهارا كبيرا بكل ما استتبعته من تدوين الأشعار والآداب العربية. ثم توسع الأمر ليشمل شتى المعارف والعلوم الدينية والإنسانية من تواريخ وأيام وسير وأنساب. ومن ضمن ذلك علوم الخيل. وكان من أول من دون في الخيل هشام بن السائب الكلبي (737 - 819 ميلادية) الذي دون في أنساب الخيل، ثم اللغويان الكبيران أبو عبيدة (728 - 825 ميلادية) والأصمعي (740 - 828 ميلادية) اللذان اشتمل كتاباهما على كل ما يخص شيات الخيل وأوصافها وأشعارها عند العرب. تضمنت الكتب الآنفة الذكر اقتباسات تفوق الحصر من الشعر العربي لكل ما يخص الخيل وأحوالها وأنسابها، إذ كانت الاقتباسات الشعرية هي المرجع المعول عليه للتدليل على كل ما أورده المؤلفون. وهو أمر يفهم في سياق الدراسات اللغوية في ذلك العصر، حيث عد الشعر الجاهلي المرجع الآكد لكل الحقائق اللغوية. إن الاستشهاد ببيت من الشعر، أو بمقولة لأعرابي، كان دليلا كافيا لتعزيز أية نظرية أو فرضية لغوية في علوم النحو والصرف الناشئة. وهذا الأمر كثيراً ما يستشكل على الباحثين في فهم قيمة الرواية الشفهية وموثوقيتها التاريخية في الحضارة العربية، كما يستشكل مفهوم الأصالة ونقاء سلالة الخيل العربية على كثير من الغربيين. كانت اللغة العربية في تلك الحقية في القرنين السابع والثامن الميلادي لا تزال نقية صافية عند أهلها الأقحاح من أهل البادية، كما كانت الخيل العربية، حتى أن عبارة من فم أعرابي تكفي لإقرار قاعدة نحوية من تلك القواعد التي كانت قيد التشكل على يد أمثال الأصمعي وأبو عبيدة وغيرهم.
وباستعراض تلك النصوص الوافرة التي ذخرت بها كتابات تلك الفترة نقلا عن الرواة، نجد الكثير من الاخبار عن الخيل العربية بأوصافها وأحوالها وأنسابها، إلا أننا لا نجد أي أثر لما يسمى الأرسان والمرابط المعروفة لدينا اليوم، ولو مرة واحدة، في أي من آداب العصر الجاهلي وصدر الإسلام، بما في ذلك كتاب أنساب الخيل لابن الكلبي والذي هو كتاب معني بأصول خيل العرب وأنسابها وما عرف من آحادها. هذا الغياب لذكر الأرسان عند الأولين دعى بعض الباحثين والمستشرقين للتشكيك في أصالة هذه المفهوم وانتسابه للثقافة العربية، فزعم البعض أنه مفهوم استشراقي ظهر في ظل الاستشراق الغربي وعلى يد الرحالة الغربيين الذين بدأوا يجوبون المنطقة بحثا عن الخيل العربية في القرون الثلاثة الأخيرة. لكن الحقيقة التي يعرفها من ينتسبون لعمق الثقافة العربية البدوية وتلقوا معارف الخيل أبا عن جد عبر أجيال عديدة متصلة، أن مفهوم الأرسان والمرابط مفهوم عربي بدوي راسخ متجذر في الثقافة والتراث بما يسبق بكثير حقبة الاستشراق الغربي في القرون التاسع عشر، أو الثامن عشر، أو حتى السابع عشر الميلادي.
استخدمت القبائل العربية مفهوم الأرسان والمرابط على نطاق واسع على امتداد الجزيرة العربية من جنوبها لشمالها، ووثقتهما آدابهم ومروياتهم وأشعارهم البدوية (غير المدونة) على مدى قرون. فلا بد إذاً من تفسير آخر لغياب ذكر الأرسان والمرابط في كتابات الأولين.
منذ انحسار نفوذ العرب في منتصف عهد الدولة العباسية بدءاً من القرنين الثالث والرابع الهجري، التاسع والعاشر الميلادي، وخسارتهم للهيمنة السياسية على العالم الإسلامي لصالح الفرس والترك وغيرهم من القوميات، دخلت كثير من القبائل العربية داخل جزيرة العرب في موجة جديدة من الحياة البدوية الرعوية، بل في كثير من الأحيان الأمية وغياب التدوين، كما كان قبل الإسلام، مما جعل التراث الأدبي والشعري البدوي بعيدا عن الكتابة وعن متناول الكتاب في الحواضر الإسلامية في القاهرة ودمشق وبغداد وغيرها، وعاد كثير من تراث أهل البادية شفاهيا. كان هذا في الوقت الذي بدأ اللسان العربي، على صورته الفصيحة التي كانت في الجاهلية وصدر الإسلام، يذهب في الممارسة المعاشية إلى غير رجعة لصالح لهجات مختلفة، ومن بينها اللهجة البدوية. ذهب نقاء اللغة في حياة العرب بعد أن ظلت اللغة قرونا نقية بين أهلها نقاء الذهب والفضة. كان هذا تحولا ثقافيا كبيرا في تاريخ العرب، وخسارة ثقافية لنقاء اللغة، ولا بد أن الخيل العراب لم تكن بمنأى أيضا عن تلك التحولات. وأن القبائل العربية في جزيرة العرب شعرت بذلك التهديد الثقافي لتراثهم، وما تتعرض له الخيل العربية النقية من خطر الضياع.
كانت المؤثرات الثقافية من مراكز الحضارة الإسلامية في الولايات والدول التي يغلب عليها غير العرب بلغاتهم وعاداتهم، ذات أثر بالغ على ضياع الفصحى. ولا بد أنها كان لها أثرها أيضا على اختلاط الخيل وضياع العتاق منها. ولا بد أن القبائل العربية استشعرت ذلك الخطر.
كانت هذه هي الحقبة والسياق الذي نشأت فيه الأرسان في نهاية عصر الدولة العباسية وبداية عصر المماليك في القرنين السابع والثامن الهجري. كان مفهوم الأرسان والمرابط هو رد الفعل الدفاعي لحفظ السلالة العربية من الاختلاط، وصيانتها والاستدلال على أنسابها. كانت أبسط الطرق وأكثرها بداهة هي إرجاع الخيل العتاق لعدد من المرابط المعروفة والموثوقة، وتقسيمها إلى عائلات تنحدر من تلك المرابط. فظهرت أسماء مرابط بعينها تعود لأمراء أو قادة أو فرسان معدودين، مثل مربط دهمة شهوان، أو كحيلة العجوز، أو صقلاوية جدران، أو شويمة سباح إلى غير ذلك من الأسماء. فكان الاسم الأول في كل منها (مثل الدهمة) هو علم على أمهات مخصوصة من الخيل صارت عائلة ممتدة، بينما الاسم الثاني (مثل شهوان) هو اسم لعلم من أعلام العرب عرفت عنده تلك الخيل وتباركت في مربطه، فصار اسمه علما ودليلا على مصدر موثوق ترجع إليه تلك العائلة من الخيل. وكل هذه الأسماء هي لشخوص عرفوا بعد القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). ومن أوضح الأمثلة على ذلك شهوان العبيدي من الضياغم من قحطان، وهو أحد قادة وفرسان القرن السابع الهجري (راجع بحثا منشورا لإدوار الدحداح حول شخصية شهوان العبيدي). وعلى أثر شهوان عرفت الدهمة المنسوبة إليه إلى اليوم. إن التاريخ المدون يتطابق هنا مع الرواية البدوية الشفاهية حول تاريخ ذلك الرسن، ويضفي مصداقية كبيرة على الروايات الخاصة بنشأة الأرسان عند قبائل العرب. نشأت فكرة الأرسان واستمرت لتكون أليه ناجعة في استبعاد آحاد الخيل التي لا يتصل نسبها لتلك المرابط المخصوصة الموثوقة. فكل حصان لا يحمل رسنا ومربطا هو غير ذي نسب ولا يعرف العرب أصالته. وينتقل الرسن من الأم لفلوها المولود وراء أمه في مربط معلوم. فمربط الأم هو مربط ولدها. بينما يأتي الفحل من مربط آخر معلوم الرسن، ولا بد أن يكون معرفاً مشهودا. تحول هذا النهج تدريجيا إلى نظام اجتماعي صارم محاط بكثير من التقاليد والأعراف يرعاها الشيوخ والوجهاء. وهو ما مثل شبكة أمان صارمة ضد ما شاع وانتشر بين الناس من خيول لا يتيقن من أصلها ولا يعرف نقاؤها من هجنتها.
أثبتت منظومة الأرسان نجاحها. وعلى مدى خمسة إلى ستة قرون تالية إلى مطلع العصر الحديث، رفض العرب أن يدخلوا على خيلهم أي حصان لا يمكن إرجاعه إلى رسن ومربط معلوم مشهود عليه بأوثق الشهادات وأثبتها. فقد قام نظام اجتماعي كامل بين البدو على حفظ أنساب الخيل. فلا يدرج حصان ولا فرس من يد إلى يد إلا ويعلم مدراجه، وكيف درج قلاعةً أو عرافةً أو منيعاً أو حيافةً، أو بيعاً وشراءاً، أو إرثاً، أو هبة. وكلها مصطلحات لها دلالتها عند العرب. وفي كل ذلك تكون للخيل شياعة بأخبار معروفة عند عوارف الخيل بين القبائل. يُشهد على كل ذلك بأغلظ الأيمان، ويستحلف الشهود بأشد المواثيق، وتقارن وتطابق الروايات، وتعقد مجالس العرف والحكم من الشيوخ والثقات لتفصل في الرويات، وتحكم في أنساب الخيل. في ظل هذه المنظومة، لا يهم كم وصل من الخيل المهجنة إلى جزيرة العرب، فهي لم تكن أبدا معزولة عن محيطها. لكن ما يهم أنه لم يكن لأي حصان أن يشبى على فرسات المرابط المعروفة من غير ان يجتاز معايير نظام الأرسان الصارمة. وأن كل عملية تشبية وإنتاج للخيل بين العرب هي عملية انتقاء واستبعاد. وكل ما خالطه شك بخرج من دائرة التشبية. ومع الوقت صارت الأرسان وما حولها من أعراف بمثابة سلطة تسجيل غير مركزية تتكون من شيوح القبائل وعوارف الخيل.
الأرسان والمرابط هي سجلات الأنساب عند العرب. لعبت نفس الدور الذي لعبته سلطات التسجيل الحديثة. وأتاحت للخيل العربية أن تستمر وتزدهر قرونا عديدة وسط محيط مضطرب ثقافياً وسياسياً في عصور الإسلام الوسيطة. الأرسان ثقافة بدوية خالصة لا دخل للغرب ولا للاستشراق فيها. وهي ليست قديمة قدم الحصان العربي، لكنها نشأت في حقبة ضاع فيها نقاء اللغة الفصحى، وكادت الخيل العتاق أن تضيع، لولا تداعي القبائل وأشراف العرب لتبني تلك المنظومة الفريدة والفعالة لصيانة أصالة وعتق ذلك الرمز الثقافي التليد.