مفهوم الأرسان والمرابط في الخيل العربية
فبراير 10, 2024المنظمات والمبادرات الغربية للمحافظة على الخيل العربية
بقلم: جوزيف فيريس
طالما اعتزت القبائل العربية البدوية في جزيرة العرب واحتفت بتاريخ وأنساب خيولها. وفي منصف القرن التاسع عشر حين قام حاكم مصر عباس ياشا الأول بجلب خيوله العربية من جزيرة العرب رأى لزاما عليه ان يحقق أصولها وأنسابها من أصحابها الأصليين، بحيث يتوفر لديه اليقين أن نتاج خيله هو خيل عراب عتاق مُحفَّظة. وفي نهايات القرن التاسع عشر حين قام ويلفريد وآن بلانت باقتناء خيول عربية مباشرة من القبائل البدوية، كانت الليدي آن بلانت حريصة على تعلم كل ما يمكنها معرفته عن خلفية تلك الخيل. لقد كان هؤلاء المربون الأوائل على قناعة تامة أنه لا يوجد غير سلالة خيل عربية واحدة، وذات هوية واضحة، وهي الخيل التي تنحدر من مرابط القبائل العربية البدوية في جزيرة العرب.
ومع ذلك، فإن تلك الرغبة في معرفة كل ما يمكن عن أنساب الخيل ومصادرها وتاريخها لم تكن سائدة عند كل من جلبوا واقتنوا الخيل العربية حول العالم. عند البعض كان ذلك على قدر بالغ من الأهمية، وعند آخرين كان ذلك أمرا ثانويا لا يلقى عناية كبيرة. وتدريجيا صار كثير من أسلاف ومصادر الخيل العربية التي ذهبت للغرب غير معروفة، مما ترتب عليه جدل واسع حول أصالة بعض الخطوط. كما أنه في بعض البلاد الغربية كان التركير الأكبر على الاستفادة من دماء الخيل العربية في تحسين الانتاج المحلي، وفي فترات مبكرة أدخلت مجموعات من تلك الخطوط المهجنة تحت مسمى الخيل العربية، كما تشكلت سلالات أخرى محسنة بالدماء العربية ظلت مستقلة.
وفي العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية زادت شعبية الخيل العربية حول العالم. فنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، صارت تدريجيا صاحبة العدد الأكبر من الخيول المسماة عربية حول العالم، أكثر من أي بلد آخر. حيث صارت مجموعات كبيرة من الخيل العربية ذات مواصفات حداثية، وانتقلت من موطنها وسياق نشأتها الأصلي إلى سياق مختلف. هنا بدأ كثيرون يلتفتون إلى أهمية المحافظة على الخيل العربية بمواصفاتها وهويتها العربية البدوية الأصلية. وكان الشاغل الأكبر لأولئك المهتمين هو كيفية الوصول إلى مشجرات نسب كاملة ومحققة لكثير من الخيل المسجلة توفر لهم نفس القدر من المعلومات وتوصلهم لتلك الدرجة من القناعة التي توفرت لعباس باشا الأول والليدي بلانت من قبل حول أصالة ونقاء ما بين أيديهم من الخيل. هذا الاهتمام والحرص على المحافظة على الهوية الأصلية للخيل العربية أدى لاحقا لظهور عدد من المبادرات لفرز ما يزال يتمتع بتلك الهوية من بين الخيول المسجلة.
فهارس القائمة الزرقاء Blue List والنجوم الزرقاء Blue Star للخيل العربية
َّفي منتصف الخمسينات من القرن العشرين، ألهمت كتابات كارل رسوان وأخرين عن الخيل العربية، مع انحسار أعداد ما يمكن ارجاعه منها للأصول البدوية، اهتمام سيدة أمريكية شابة. بدأت السيدة، وتدعى جان أوت، بإعداد قائمة بالخيول في أمريكا الشمالية التي تتوفر لها شروط الانتساب إلى مصادر الخيل العربية وفق أبحاث السيدة أوت وقناعتها الخاصة. واحتفظت بنتائج بحثها في دفتر ذي غلاف أزرق. ومع نهاية عقد الخمسينات تم نشر هذه القائمة تحت مسمى "الفهرس الأزرق للخيل العربية". في هذا الفهرس تقرر المؤلفة ما يلي: "تم نشر هذا الفهرس لتشجيع المحافظة وزيادة انتاج ذلك النوع من الخيل الذي كان موجودا يوما عند القبائل العربية البدوية." كان هناك قائمتان رئيستان في ذلك الفهرس، وهما ما أسمتهما المؤلفة: القائمة الزرقاء، والنجوم الزرقاء. اعتبرت صاحبة الفهرس النجوم الزرقاء هي الخيول التي تعود للأرسان المعروفة باستثناء رسن المعنقي وتفرعاته، بينما احتوت القائمة الزرقاء على كل الأرسان بما فيها رسن المعنقي. الفارق بين القائمتين يعود لكتبات كارل رسوان حول رسن المعنقي وما تصوره حول اختلاف هذا الرسن عن باقي الأرسان. بالنسبة للبعض مثلت هذه القوائم مجرد عمل بحثي نظري، بينما اعتبرها آخرون ذات أهمية عملية. كان هناك أيضا فئة ثالثة من الخيول في الفهرس اعتبرتها الباحثة غير محققة الأصول، أو تحتاج لمزيد من المعلومات.
احتوى الفهرس الأزرق غلى خيول عربية مستوردة من بلاد عربية مختلفة، من ضمنها مصر، والسعودية، وسورية، والخليج العربي، ومن مناطق أخرى حول العالم طالما أمكن إرجاعها للأصول العربية وفق معايير صاحبة الفهرس. كان تركيز الفهرس الأزرق منصبا على الخيول التي أستوردت إلى الولايات المتحدة وأمريكا الشمالية ولا يزال لها نتاج هناك، دون التقيد بشرط أن تكون مسجلة في السجل الأمريكي. مثَّل الفهرس الأزرق مصدر إلهام للكثير من المربين خاصة المهتمين بالخط المصري والخطوط الجزيرية، ودعاهم للمحافظة على نقاء خطوطهم وعدم خلطها، مما مثل أول تحرك عام للمحافظة على الجواد العربي الاصيل في الغرب. انتشر الفهرس الأزرق وتم بيعه ككناب متضمنا اشتراكاً للحصول على أية تحديثات. صدر آخر تحديث سنة 1969. في ذلك العقد تركت السيدة جان أوت أثرا كبيرا على جيل كامل من المربين والمهتمين، وأثارت اهتمامهم بالمحافظة على الجواد العربي الأصيل ذي الأصول النقية.
جمعية الأهرام Pyramid Society، والحصان العربي المصري Straight Egyptian Arabian
في نفس الوقت تقريبا الذي صدر فيه آخر تحديث للفهرس الأزرق، تشكل حراك بين المربين الأمريكيين والكنديين الحائزين لخيول تنحدر من الخط المصري لتأسيس جمعية خاصة للمحافظة على ذلك الخط. تأسست جمعية الأهرام في عام 1969. وعلى خلاف الفهرس الأزرق، ركزت جمعية الأهرام على مصدر واحد، وعلى خط يمثل نتاج دولة واحدة من الخيل العربية، وهي مصر، لكن مع الاستمرار في التقيد بشرط رجوع جميع الخطوط إلى البادية العربية (Arabia Deserta). كانت المحافظة على الخط العربي المصري ذات أهمية كبيرة عند المربين الحائزين لخيول منحدرة من هذا الخط، مما حدا عددا منهم إلى العمل معا، وتم اختيار مصطلح "الحصان المصري الخالص" (Straight Egyptian).
وعلى خلاف الفهرس الأزرق، تم اشتراط أن تكون الخيل مسجلة في السجل الأمريكي، سواء كان الجواد مستوردا أو منتجا محليا من خط مستورد من مصر. وحيث أن الخيول العربية في مصر تمتد لتاريخ أبعد بكثير من نشأة السجلات الحديثة، حرصت الجمعية في تعريفها على استيعاب كل ما ينحدر من الخيل المصرية حتى وإن لم يسجل في مصر قبل استيراده.
تطور اهتمام جمعية الأهرام لتصبح ذات توجه عالمي يتعدى القطر الأمريكي، مما حداها في 2016 إلى نشر دليل أنساب سمته "دليل جمعية الأهرام للخيول العربية المصرية الخالصة حول العالم". احتوى دليل الأنساب على شروح تفصيلية حول أسلاف الخيل العربية المصرية، وأصبح أساسا لتوضيح تعريف الجمعية لذلك الخط.
وكما حدث مع المهتمين بالفهرس الازرق، اهتم كثير من مربي الحصان المصري بقضية الأرسان وأصول الخيل العربية. ولعقود طويلة نشرت منظمة جمعية الأهرام كتبا مرجعية في إصدارات عديدة زخرت بالمعلومات حول الحصان المصري، كما نظمت الكثير من الحلقات التثقيفية في ندواتها المصاحبة لمهرجان الخيل المصرية السنوي.
منظمة الخمسة Al Khamsa، وخيول الخمسة Al Khamsa Arabians
في بداية سبعينات القرن العشرين،شعر عدد متزايد من أنصار الفهرس الأزرق (الذي توقف عن النشر) بضرورة تأسيس منظمة تتابع على أثر ما تم إنجازه، فنشأت على إثر الفهرس منظمة سنة 1973 سميت بمنظمة "الخمسة". كان الاسم رمزيا يستلهم أسطورة الفرسات الخمس المؤسسة للخيل العربية. اعترفت الخمسة بشكل شبه كامل بكل ما اعتمده الفهرس الأزرق. لكن أخذت الخمسة نهجا أوسع استوعب خيولا لم يحتويها الفهرس، وبالتالي هي لم تكن مجرد إعادة استنساخ للفهرس.
يقوم تعريف الخمسة على قبول "أية خيول موجودة في أمريكا الشمالية يمكن اعتبارها بشكل منطقي منحدرة بالكامل من الخيل العربية البدوية من إنتاج القبائل في بوادي شبه الجزيرة العربية". تحصر الخمسة اهتماها بالخيول المستوردة أو المنتجة في أمريكا الشمالية، لكن مؤخراً أضافت الخمسة بعض خيول الأساس في دول أخرى والتي لم يصل نتاجها بعد إلى الأراضي الأمريكية. تعترف الخمسة، مثلها مثل الفهرس الأزرق، بأية خيول توافق تعريفها بالرجوع لأصول بدوية أيا كان مصدرها، ولا تشترط أن تكون الخيل مسجلة بالسجل الأمريكي كي يتم قبولها في الخمسة، وإن كانت غالبيتها مسجلة بالفعل بحكم الأمر الواقع.
وعلى غرار جمعية الأهرام، تنشر الخمسة كتبا مرجعية متعددةـ ولها مجلة دورية منذ ما يقارب الأربعين عاما تحت اسم "الخمسات". وللخمسة موقع إلكتروني يحتوي عل ما يمكن اعتباره أكبر قاعدة بيانات مفتوحة على شبكة الإنترنت لأصول الخيل العربية، تحوي جميع خيول الخمسة مع توثيقٍ كامل لأصولها يمتد لفترات مبكرة. تنظم الخمسة مؤتمرا سنويا تثقيفيا منذ 1974، ولا تزال تعمل وتوسع نشاطها بما يخدم المحافظة على الخيل العربية ذات الأصول البدوية المحققة.
نادي الأًصيل Asil Club، والخيل العربية الأصيلة Asil Arabians
في بداية السبعينات، لكن هذه المرة في القارة الأوروبية، نشأت منظمة على نحو مشابه لملابسات نشأة منظمة الخمسة. سميت المنظمة "نادي الأصيل"، وتبنت مصطلح "جواد الأصيل" (جواد عربي أصيل) لتميز الخيل التي تعترف بها المنظمة. يقوم تعريفها على أن الجواد العربي الأصيل هو "جواد يعود نسبه بالكامل للخيل المنتجة من القبائل العربية البدوية، مع خلوه من اية دلائل مطلقا على اختلاطه مع دماء غير عربية في أي وقت من الأوقات". كانت أكثر الخيول في أوروبا التي توافق هذا التعريف هي بالمصادفة خيول مصرية (Straight Egyptian)، وبالتالي تم قبول جميع خيول جمعية الأهرام في نادي الأصيل، ومعها أعداد قليلة من خيول ذات أصول بدوية أخرى.
لعدة عقود نشر نادي الأصيل كتبا مرجعية كبيرة ذاخرة بما يخص الثقافة والتراث البدوي، وما يمثل ذلك التراث من الخيل. وفي إصدارات نادي الأصيل يتم وضع رموز تعريفية بجوار أسماء الخيل لتمييز المصري الخالص، وما يحتوي أصولاً بدوية مغايرة. ومع الوقت تحول نطاق عمل نادي الأصيل للعالمية بمشاركة مربين من العالم العربي ومناطق أخرى. نظم نادي الأصيل لسنوات حدثا سنويا مبهجا يسمى كأس الأصيل، وقام النادي بكثير من الترويج حول العالم للخيل التي يعترف بها.
نشرت جميع تلك المنظمات، الخمسة، ونادي الأصيل، وجمعية الأهرام، كتبا على مر السنين، لا شك أنها استلهمت نهج الفهرس الأزرق. ومع ذلك، كان لكل منظمة خيولها التي لا تتطابق لأسباب مختلفة. فبالنسبة لجمعية الأهرام كان المنطلق جغرافيا مقصورا على الحصان المصري فقط. بينما يقبل نادي الأصيل خيولا من مصادر بدوية أخرى، وكذلك الخمسة مع الخيل العربية الوافدة لأمريكا الشمالية. بعض الخيول المصرية لم تكن في الفهرس الأزرق، لأن صاحبة الفهرس أرادت المزيد من المعلومات حول أصولها. وعلى نفس النهج لا تزال بعض خيول جمعية الأهرام غير مقبولة لدى منظمة الخمسة، بينما تبقى منظمة الخمسة بابها مفتوحاً لقبول أية خيول غير مقبولة حالياً في حال ما توفرت معلومات جديدة حولها أصولها.
وبالنظر لكل ما تقدم، فإننا نتساءل، ماذا لو لم تظهر تلك المبادرات بداية بالفهرس الأزرق، وما تلاه من منظمات؟ هل كان من المكن أن نظل ننعم حول العالم باقتناء ذلك الكائن البديع الذي هو الجواد العربي البدوي؟ إنه لمن ميامن الأقدار أنه لا يزال هناك إلى اليوم من يهتم ببقاء ذلك الإرث من الخيل العربية كما كانت زمن عباس باشا الأول، والليدي آن وزوجها ويلفرد بلانت، وغيرهم ممن كرسوا حياتهم للمحافظة على الخيل العراب الموثقة.
لكن يبقى السؤال الأكبر، هل يعد كل هذا كافيا؟ بالنظر الشامل لكل ما يمكن أن يعد خيلا عربية بدوية حول العالم، وما تعترف به المنظمات أعلاه، فإن بعض التقديرات تقدر تعدادها بأقل من 12 بالمائة من كل الخيل المسجلة عالميا تحت مسمى الخيل العربية. وحتى لو عددنا هذا تقديرا متحفظاً، إلا أنه يمثل نداء تحذير بأن السلالة العربية بهويتها الأصلية، وأرسانها، ومواصفاتها العتيقة، هي عرضة لخطر محدق أن تنقرض وتضيع إلى الأبد. فخيول منظمة الأهرام ننحدر جميعها من 66 رأسا من الخيل العربية، والتي بعضها يكاد يندثر، بل تكاد بعض الأرسان داخل الخط المصري ندثر بالكامل مثل رسن شويمة سباح. وبينما تنحدر خيول الخمسة من عدد أكبر يمثل أربعة أو خمسة أضعاف خيول الخط المصري، إلا أن معدل الفقد في خيولها الأساسية يسير بإيقاع أسرع. وكل ما يحدث داخل هاتين المجموعتين من الخيل يلحق بالتبعية بخيول نادي الأصيل، والتي تشترك في كثير من خيولها الأساسية مع منظمة الخمسة وجمعية الأهرام.
كل هذه الإعتبارات دون شك، هي من ضمن المسوغات لمبادرة البيان العام، ولمنظمة العتاق. هذه المبادرة تقدم فرصة تأسيس لحقبة جديدة تعيد إحياة هوية الخيل العربية على مستوى العالم عموماً، وفي العالم العربي خصوصاً، ولأجياله القادمة التي تتوق إلى العودة للجذور، وللتنعم بما هو نابع من تراثها الخاص، من خيل عربية انتخبت بعناية على يد أمثال عباس باشا الأول، والليدي أن بلانت، وهومر ديفنبورت، وكثير من الرعيل الأول.والآن هو الوقت المناسب لذلك.